محمد اليوسفي، أستاذ بجامعة القاضي عياض مراكش يلقي الدرس الحسني الرمضاني الرابع: البيئة والإنسان في رعاية الشريعة الغراء

ألقى الأستاذ محمد اليوسفي، أستاذ بكلية اللغة العربية وعضو المجلس العلمي المحلي بمراكش، يوم الثلاثاء 15 رمضان 1437(21 يونيو 2016) بين يدي أمير المؤمين الدرس الرابع من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية لعام 1437/2016 متناولا بالدرس والتحليل موضوع : "البيئة والإنسان في رعاية الشريعة الغراء"، انطلاقا من قول الله تعالى : "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" وفيما يلي نص الدرس الحسني.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين  سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 مولاي أمير المؤمنين

السلام على مقامكم السامي ورحمة الله وبركاته

 لقد أكرم الله هذه الأمة المجيدة بهذه الدروس الحسنية الرائقة التي مهما قيل فيها من إشادة فإنها لا تستقصي فوائدها ومحاسنها، فهي مجالس علمية رائدة ساهمت وتساهم في ترسيخ درجة عالية من الوعي الديني الناهض على فضائل الوسطية والاعتدال، ومعايير الاجتهاد المتنور الأصيل،  في عهدكم الزاهر الميمون الذي يرعاه الله الحفيظ المانع بآلاء الأمن والأمان.

لقد خطا المغرب - بقيادتكم الرشيدة - خطوات حكيمة في سبيل ترسيخ وعي حقيقي فاعل بالقضايا والإشكالات البيئية، فكان البعد البيئي حاضرا بقوة في خطبكم السامية، وأعمالكم الوطنية الجليلة، فبادرتم إلى إطلاق سياسة ترابية جديدة منفتحة على الطاقات المتجددة، والتنمية النظيفة، ولا ريب أن الميثاق الوطني للبيئة  والتنمية المستدامة الذي أمرتم بصياغته وباركتموه يشكل أرضية أساسية لمختلف الرؤى التصحيحية، والمشاريع الميدانية التي من شأنها إحداث ثورة بيئية وطنية تتصدى لخطر التلوث والتصحر والهشاشة، وتحمي مخزوننا المائي وجودته، وتسارع إلى اتخاذ المبادرات الاستباقية في وجه التحديات البيئية، علاوة على إنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وغاية ذلك كله تحصين البيئة المغربية وتأهيلها لمواكبة مغرب التطلعات والتحديات.

ولا ريب أن استضافة المغرب لقمة المناخ العالمية كوب 22 شهر نونبر القادم بمراكش تشكل شاهدا ميدانيا على أن هذا البلد الأمين حاضر بامتياز في قلب الاهتمام بالبيئة الكونية، وقد بشرتم - رعاكم الله- في طنجة بأن قمتي باريس ومراكش ستشكلان بداية تحول وانعطاف جديد في مجال مناخ العالم.

مولاي أمير المؤمنين

يشكل واقع البيئة الكونية ومستقبلها هاجسا مؤرقا بالنسبة لسائر الدول والمنظمات والجمعيات المهتمة، خاصة وأن ناقوس الخطر أخذ يدق وينذر بغد طافح بالقلق والتوجس.

وإذا كان عصرنا يعاني مما يصطلح على تسميته بمشكلات العصر، فلا شك أن في صدارتها معضلة التدمير البيئي المتمثلة في الانبعاث الحراري، وذوبان الجبال الجليدية، وانقراض الأنواع الحيوية، وتقويض التوازن المناخي، وندرة المياه ونقصان جودتها، وتلاشي الرصيد الغابوي بشكل ملحوظ، وغير ذلك مما تثيره وتناقشه اليوم المنتديات العلمية المختصة، والدوائر المعنية، ويمكن القول: إن مشكل التلوث أضحى ضاغطا أكثر من غيره، لأنه يمس الفضاء الذي نتساكن داخله، علما بأن الكون أصبح عالما صغيرا تتداعى سائر مناكبه بما يحدث في أي ركن من أركانه.

وإذا كانت الشرائع السماوية قد أولت عناية خاصة للقضايا البيئية نظرا لأبعادها العقدية والأخلاقية والإنسانية؛ فإن شريعتنا تمتلك تصورا حضاريا متميزا لهذه القضية.

وإذا كان من واجب علماء المسلمين أن يبينوا لأهلهم وللناس كافة رأي الإسلام وهديه في مجال البيئة، فإن هذا الدرس المتواضع يحاول إعطاء ملامح وجيزة عن هذه المبادئ والتوجيهات، وسنسوق إن شاء الله ملامحها في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف واجتهادات الفقهاء، مع الإشارة إلى بعض ملامح سلوك السلف الصالح بخصوص هذا الموضوع.     

أولا: البيئة في القرآن الكريم

العنصر الأول: الكون في منظور القرآن الكريم

لقد أثار القرآن الحكيم انتباه الإنسان إلى الدقة المعجزة المتناهية التي تم بها إبداع الكون أرضا وسماء، وما يلاحظ من تفاعل وانصهار بين مكوناته، قال تعالى: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق" سورة العنكبوت الآية: 19. إن هذا التوجيه إلى السير والنظر في مختلف المشاهد الكونية يوجه العقل الإنساني إلى أهمية هذه المعرفة الميدانية، لأن ذلك سيقود حتما إلى تقديرها، وتقدير صانعها، ومن آيات تقديرها حمايتُها وصيانتها لتُمدَّ ساكنها بما يساعده على تحقيق وظيفة الاستخلاف الناهضة على ترسيخ التوحيد، وإبداع الحضارة، ثم التشوف إلى الحسنى وزيادة.

يقول ابن عطية في "المحرر الوجيز": "والنظر هنا بالعين تقديرا ووزنا، وبالقلب عبرة وفكرا".

العنصر الثاني: الكون محكوم بقوانين معجزة

بعد توجيه العقل المتأمل إلى استكناه بدايات الخلق الكوني؛ تأتي محطة أخرى من التفكير والاستغراق أكثر إثارة، إنه الاستعراض العجيب لمجموعة من القوانين والضوابط الدقيقة التي تحكم الإبداع الكوني، والقرآن الكريم زاخر بهذه الإحالات التي تحفز العقل المتدبر إلى تسخير طاقته القصوى في التتبع والترصد والاستنتاج، وتبعا لذلك تنتفض الطاقة الروحية للإنسان، فتنعم بنشوتها الكبرى، يقول تعالى: "والأرض مددناها والقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون" سورة الحجر آية: 19،  يقول الفخر الرازي "في مفاتيح الغيب": "الله سبحانه وتعالى قدرها على وجه مخصوص بقدرته وعلمه وحكمته، فكأنه تعالى وزنها بميزان الحكمة حتى حصلت هذه الأنواع".

العنصر الثالث: توجيه العقل والوجدان إلى جماليات الكون

كشف الكتاب العزيز عن نخبة من المظاهر الجمالية الكونية التي تثير العقل، وتحرك الوجدان من أجل الإبانة عن ذلك الوجه المشرق في آيات الصنع الكوني، وهكذا يجد المتأمل نفسه في رحلة شائقة بين آيات الجمال المنبعثة من الظواهر الفلكية والطبيعية مصوغة في نظم بياني وجمالي معجز، فكم يثيرنا ذلك التجسيد الحركي لهيئة الأرض وهي تراوح بين الهمود والاهتزاز والربوة في الآية الكريمة: "وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من   كل زوج بهيج" ثم يأتي التعقيب على هذه الصورة الفنية التي جمعت بين طرفي الجلال والجمال بقبس من نور التوحيد فيقول سبحانه: "ذلك أن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير". سورة الحج آية: 6، وهذا إكبار عجيب لمظاهر الطبيعة.

العنصر الرابع: التسخير الكوني وحكمة التدبير

لقد أكد القرآن الحكيم أن جميع ما يحضنه الكون من نِعم طبيعية، وخيرات مختلفة مسخرة للإنسان بالفطرة، مما يَحكُم نعمة التسخير بميزة الاستمرار وعدم الانقطاع، وآيات التسخير مكثفة في الذكر الحكيم، كقوله تعالى: "ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض  وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" سورة لقمان آية 19، يقول المفسر الورع أبو الحسن الحرالي المراكشي في "العروة: "ولما كان الإنسان مخلوقا من صفاوة كل شيء، توسع له جهات الانتفاع بكل شيء إلا ما استثني منه لخوف الحرام ووجهه". 

ومن أبرز مظاهر حكمة النص القرآني الكريم، ورعايته لحاجيات الإنسان حرصه على توفير كل ما يساعد هذا الخليفة المكرَّم على التساكن مع الكون، وهكذا نسجل امتنان الجواد الكريم  بنعمة الكفاية الغذائية مقرونة ومطرزة بالكفاية الأمنية، وكأنهما توأمان تحضنهما الرحم الفطرية الأصيلة للحياة "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" سورة قريش آية 4.

العنصر الخامس: توصية القرآن بعدم إفساد صُنع الله

لقد شدد القرآن على التحذير من الإفساد في عشرات الآيات، لأنه صنيع مخالف للفطرة، مناقض للسلوك السوي، وإذا كان هذا النهي شاملا لمختلف صور وأشكال الفساد المادية والأخلاقية؛ فإن التنصيص على إفساد خيرات الأرض، والإجهاز عليها بمختلف أشكال التدمير والعدوان قد وقع النكير على مقترفيه بجلاء، وبصيغ بيانية صارمة، وهكذا ندد القرآن الحكيم - حسب الرواية الشهيرة- بالفعل الوضيع للأخنس بن شُريق  من قبيلة بني ثقيف– وكان يُظهر الإيمان ويُضمر الكفر- وذلك حين انصرف من بدر ببني زهرة راجعا إلى مكة - وكان بينه وبين قومه خصومة-، فبيَّتهم ليلا، فأهلك مواشيهم، وأحرق زرعهم، فضرب المولى المثل به قصد التنديد والعبرة فقال: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحيوة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد". (سورة البقرة، الآيتان: 202-203).

لقد تناسى الأخنس - ومن هم على شاكلته - أن كل صيانة للخواص الفطرية والمنتجة للأرض هي صيانة لحاضر ومستقبل الإنسان، ولا تقف هذه العملية عند جيل معين، وإنما تتجاوز ذلك إلى الأجيال اللاحقة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

ثانيا:  البيئة في السنة المشرفة

تشكل السنة المطهرة مصدرا خصيبا غنيا بالتنصيصات والإشارات البيئية والجمالية التي عُنيت بمختلف المظاهر الكونية والاجتماعية والإنسانية، وإن الباحث لينبهر أمام الرصيد الصحيح للنصوص البيئية داخل المدونات الحديثية خاصة في كتب الطب والحراثة والغراسة والرقائق والفتن وغيرها، كما نجدها حاضرة بقوة داخل مشاهد السيرة العطرة، وهي كافية –في هيكلها العام- لترشيد وتقويم أبرز المجالات البيئية الحيوية.

وإذا تأملنا جملة من المحطات التي وجهت الرسول الأعظم داخل البلاغ القرآني والحديثي والسيري؛ فإننا نجد التأثير البيئي حاضرا وهذه صور موجزة منها:

* لقد كان أشراف العرب يحرصون على إرسال أبنائهم إلى المناطق البدوية المتميزة بفطرتها الأصيلة أملا في تشبعهم بالسليقة اللغوية، علاوة على امتلاك المؤهلات البدنية والذهنية والنفسية السليمة، ويبرر الإمام أبو القاسم السهيلي ذلك في: "الروض الأنف" فيقول: (وقد يكون ذلك منهم لينشأ الطفل في الأعراب، فيكون أفصح للسانه، وأجلد لجسمه.... وقد قال عليه السلام لأبي بكر رضي الله عنه حين قال له: "ما رأيت أفصح منك يا رسول الله فقال: "وما يمنعني وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد" ولعل هذا من بين ما أهّل الرسول الفصيح لتلقي الكتاب المعجز الذي نزل بلسان عربي مبين، وليكون المخصوصَ بجوامع الكلم التي حققت شأوا بعيدا في الإيجاز والبيان وعمق النظر).

وإذا تأملنا بعض الخصائص الإعجازية النبوية – وهو بحر عِلم خصائصُه زاخرة لا تكدره الدلاء- كما يقول القاضي عياض في "الشفا"؛ فإننا نكتشف ظلال البيئة المطهرة حاضرة، ففي حادث شق الصدر، نجد عنصر الماء حاضرا، يقول الإمام السهيلي: "فغسله روح القدس بماء زمزم التي هي هَزْمَةُ القدس، وهَزْمَةُ عقبه لأبيه إسماعيل عليه السلام".

وهذه نماذج منتقاة من السجل البيئي النبوي المشرق

أ‌. الغراسة وتجلياتها البيئية

نسجل أن من مظاهر عناية شريعتنا بجمالية البيئة توصيتها بغرس الأرض، وعدم تركها جرداء قاحلة، لأن في زرعها نفعا للزارع، ونفعا للفضاء البيئي، تلطف أجواءه، وتعدل طقسه، وتنثر عليه ظلال السكينة والدعة.

يقول عليه الصلاة والسلام: "ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أُكِل له منه صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكل الطير فهو صدقة، ولا يَرْزُؤُه أحد (أي لا يصيب منه أو ينتقص)  إلا كان له صدقة".

لعل أقرب تصور لنتائج الغرس هو التأكيد على المردودية النفعية المادية، ولكن هذا النص الشريف يرتقي بالنتائج إلى ما هو أسمى، إنه الأجر الذي ينعكس إيجابا على حياة الغارس دنيا وأخرى، بل يتجاوز عياله وذوي قرباه إلى السبع والطير والغاصب، نظرتُنا إلى السبع والغاصب نظرة متوجسة.. وهي هنا نظرة استدرار للصدقات. كل ذلك لصالح البيئة.

بل إننا نكاد نجزم بأن شريعتنا قد تفردت بحرصها على زراعة الأرض إلى حد التوصية بذلك ولو قامت الساعة، يقول عليه السلام: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة (أي نبتة صغيرة منفردة من النخلة)، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل".

وهذا يعني أهمية القياس على هذه الصورة في مختلف الأوضاع الطارئة.

ب‌.الماء في المنظور النبوي

اعتبرت الشريعة المطهرة الماء الشريان الحيوي للبيئة بمختلف مكوناتها (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وإن وروده في القرآن ثلاثا وستين مرة غطى من خلالها مختلف وظائفه ومنافعه ليشكل حجة بالغة على أهميته، لذا لا عجب إذا أحاطته السنة – وهي بيان القرآن- بعناية ملحوظة. خاصة وأن له بُعده الروحي المؤثر إذ هو حاضر بقوة في نخبة من الأحكام التعبدية أظهرها الوضوء الذي لا تحل الصلاة إلا به... وهو الذي اثبت الدرس العلمي التجريبي آثاره الصحية والنفسية والجمالية البالغة من منظور علم النقاط الانعكاسية....

ومع ذلك اعتبرت السنة المشرفة الإسراف في ماء الوضوء اعتداء، وقدمت الأسوة في ذلك من الرسول الأكرم، فعن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد".

والمد يساوي ثلاثة أرباع اللتر، والصاع يساوي ثلاثة لترات.

وإذا تصورنا احترام المتوضئين لكراهة الإسراف وعدم الاقتصاد في الوضوء؛ وإذا تصورنا-تبعاً لذلك-اقتصاد نصف لتر من الماء في كل وضوء؛ فإننا سنربح-بعدد المتوضئين-ملايين اللترات من الماء الذي سيوظف في مختلف الاحتياجات الضرورية.

ومن توصيات صاحب الخلق العظيم حول نعمة الماء ما رواه أبو هريرة: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ".

إن هذا النهي النبوي حكيم بامتياز، لأن الأصل أن الماء قسمة بين الناس، لذا يصبح منع المحتاجين إلى فضل الماء منعا للكلإ... فتنجم عن ذلك كارثة بيئية مزدوجة: عدم زرع الأرض بالكلإ مما ينذر بالجفاف والتصحر، وعدم رعي الماشية مما يفضي إلى هزالها، وعدم استغلالها إنجابا وتغذية، وذلك كله يؤثر سلبا على البيئة.

وهذا يعني أن التوصية بعقلنة تدبير استعمالات الماء واجب ديني، وفضيلة أخلاقية وإنسانية، وإن توظيفها على مستوى أكبر وأبعد سيقي مما قد يشتعل من صراعات مستقبلية حول الماء.

 ج. لمحة عن الوسط البيئي النبوي

مولاي أمير المؤمنين

لقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام حريصا على نقاء وصفاء وسطه البيئي الخصوصي، لا يخدشه أي منظر مثير يمكن أن يعكر صفو المقام النبوي الشريف الذي يشكل الأنموذج المثالي الخليق بالأسوة. وما أرق وصف حسان بن ثابت لهذا النبي الطاهر الزكي:

وأحسن منك لم تر قط عيني 
 
  وأجمل منك لم تلد النساء

 فعندما نتأمل بعض الشمائل النبوية الخصوصية فإننا نجد البعد الجمالي البيئي حاضرا بجلاء. وقد استفاضت عنايته عليه الصلاة والسلام بالعطر، حتى جعله من سنن المرسلين في قوله: "أربع من سنن المرسلين: العطر والنكاح والسواك والحياء". بمعنى أن التعطر قاسم جمالي مشترك بين سائر الرسائل السماوية، الأمر الذي يطبعه بالصبغة الإنسانية التي تتجاوز الجنس والعرق واللون واللسان".

وقد كان الرسول حريصا على أن تبقى البيئة سليمة، معافاة، وكان يقدر خطورة العدوى، وما ينتشر بسببها من علل وأسقام في أوساط الأصحاء.

فعن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: "كان في وفد ثقيف رجل مجذوم جاء للبيعة فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إنا بايعناك فارجع".

فإذا تأملنا أدب الرسول وحكمته البالغة؛ فإننا نجده قد استبق الأمر قبل وقوعه، وبلَّغ المبتلى أمنيته التي جاء من أجلها وهي البيعة، وشرَّفه عليه السلام بأن جعله المبايعَ. وقدم ذلك على أمره له بالرجوع، لأن الاستهلال بالأمر قد يوجع المريض المبتلى، لذا آنسه وطمأنه، ولا غرو فقد وصفت خلالَه الشريفة الآية الكريمة: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم" سورة التوبة آية: 128.

وتلك رسالة توجيهية نفيسة إلى الطبيب، أمامه المبتلى، والمأزوم، والمصاب. وقد ذهب الرسول عليه السلام بعيدا في تمثل المواصفات البيئية المنشودة؛ فاعتبر جماليات الإنسان في ذاته، وفي علاقاته الإنسانية، قيما يكمل بعضها بعضا، حتى إذا أضفنا إليها القيم البيئية الطبيعية، برزت تلك الصورة المهيبة النيرة التي رصعت هذا النص الشريف:  "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكِبر بَطَر الحق، وغَمْطُ الناس".

لذا لا غرابة إذا اعتبر الرسول عليه السلام الطريق ملكاً مشتركاً يجب أن نغار عليه، ونحرص على صفائه ونظافته، لأنه البساط الذي يجمعنا، وأي توصية مأجورة غالية تعدل قول النبي الأمين:  (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة).

 ثالثا:  اهتمام فقهائنا بالبيئة

مولاي أمير المؤمنين

لقد حظيت قضايا البيئة باهتمام ملحوظ في تراثنا الفقهي الإسلامي، تشهد على ذلك الخزائن العامرة التي تحضن من مصادر فقه النوازل، والفتاوى والحسبة، وكتب الوثائق والشروط ما يزدهي به الباحث، وإذا كان علماء المشرق قد أغنوا هذا الحقل بعطاءاتهم، فإن علماء الغرب الإسلامي - وفي صدارتهم فقهاء المغرب والأندلس- قد أثْروا هذا المجال بحس اجتهادي وحضاري متفرد، وقد كان لفقهاء المالكية الأثر العميق في هذا العطاء العلمي الزاخر الذي كشف لنا الكثير من دقائق التقاليد والسنن التي جرى القضاء بها في المغرب، كما كشف الكثير من دقائق الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ويؤكد المؤرخون أن التاريخ الإسلامي لم يعرف بلدا كانت المالكية فيه عصب الحياة كما كانت في المغرب والأندلس، ولازال الأمر ساريا في المغرب ولله الحمد، وقد حفظت لنا موسوعات فقهية قيمة قسطا كبيرا من هذا التراث الفقهي الأصيل كالمعيار المُغرب لأبي العباس الونشريسي (ت 914هـ)، والمعيار الجديد للعلامة المغربي المتنور المهدي الوزاني (ت: 1932م) الذي كانت له فتاوى بيئية وصحية جريئة، منها انتصاره للتلقيح ضد الجدري ودعوة المواطنين إليه خلافا لبعض الأصوات المحافظة.

وقد تميزت اجتهادات علمائنا في المجال البيئي بقدرتهم على التأصيل، والقياس الموضوعي، وشددوا على احترام الحقوق البيئية، واعتبروها شرطا ملزما في الجوار والبناء والمشترك من المنافع من هواء وشمس وماء، ومن أبرز ما وظف في هذا الحقل قاعدة الاحتياط التي يلجأ إليها حالَةَ النظر في مفسدة  واقعة أو متوقعة، ومن الفقهاء من اعتبرها رديفة لقاعدة سد الذرائع، وهناك قواعد فقهية تحكم نخبة من المقاصد الشرعية التي يمكن أن تشكل ضوابط أساسية لقاعدة الاحتياط ونذكر منها:

- الضرر يزال / الضرر لا يزال بالضرر / الضرورات تبيح المحظورات / درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة/ ويمكن الاحتكام إلى هذه القواعد بشكل مفتوح في مجال التقنين للبيئة بُغية الحفاظ عليها، وبذلك تكتسب الإجراءات المسطرية والزجرية قوتها المستمدة من القواعد الشرعية.

وقد أكدت دواوين أصول الفقه، وكتب الخلاف العالي على أن سائر الملل والنحل قد أجمعت على المحافظة على مصالح الإنسان الضرورية والتي أُسّست من أجلها مصالح الأمن ومحاكم القضاء، وهي مصالح الدين والنفس والعقل والعرض والمال، ولا شك أن صيانة المجال البيئي هي الضامن الأساس لتفعيل الحفاظ على هذه الضرورات. ذلك أن الحفاظ على حرمة النفس والعرض لا يترسخ إلا داخل بيئة مصونة توحي بالانضباط وصيانة حرمة الفطرة الكونية، كما أن العقل لا يمكن أن يتوقد ويُشغّلَ قدراته القصوى إلا في ظلال البيئة الطبيعية  التي لا تصيبها هزات ونكسات، ويلاحظ أن كثيرا من مظاهر فقدان التوازن النفسي الشائعة اليوم راجعة إلى التقلبات والمعضلات البيئية.

رابعا:  نماذج من احتياط السلف في المجال البيئي

* لقد ظل سلفنا الصالح غيورا على البيئة المغربية، فتجسد ذلك داخل محيطه وبيوتاته، توجهه روحه الإيمانية، ووعيه الكبير، فحرصا على نظافة المساجد وعدم السماح بارتيادها إلا لمن توفرت فيه شروط الصيانة؛ يلاحظ في كثير من مدننا العتيقة كفاس ومراكش وتطوان تخصيص باب للحفاة مرصوص بحجارة خاصة يغسل فيه الحفاة أرجلهم قبل دخول المساجد، وقد نوهت بذلك كثير من المصادر.

* كما نسجل حضور الوعي الصحي بخطورة وجود بعض المهن التي تشكل بعض مركباتها مواد تساهم في تلويث البيئة الحضرية، لذا وقع الحرص على تخصيص أماكن محددة لها بدقة، وإذا أخذنا مراكش نموذجا فإننا سنلاحظ أن مهن الدباغين، والفخارين، والجيَّارين وما يشبهها من المهن الملوّثة توجد مصانعها التقليدية  خارج سور المدينة في موقعها الشرقي لأن مراكش تتعرض عادة للرياح القادمة من الجهة الغربية فتعمل على إبعاد جميع الأدخنة الملوثة خارج المدينة ويترجم هذا الإجراء الحكيم حرص الوعاة من أهل التدبير على مدينة نظيفة سليمة. إنه احتياط حكيم حري بالمراعاة في حقولنا الصناعية الحديثة.

* ومن أبرز وسائل الاحتياط الوقائية المبادرة الحكيمة التي قضت بوضع ذوي العاهات المعدية كالجذمى وأضرابهم خارج أسوار المدينة، علماً بأن التعقيم لم يكن موجوداً، كما أن وسائل الوقاية من انتشار الأوبئة كانت متواضعة،  ويؤمل من عملية العزل هذه عدم نقل العدوى إلى داخل المدينة وقد سميت هذه الأماكن بالحارات، يقول ابن الزيات التادلي في "التشوف" عن أبي يعقوب يوسف بن علي المبتلى – وهو معدود من رجال مراكش السبعة-  كان في حارة الجذماء،... سقط بعض جسده في بعض الأوقات فصنع طعاما كثيرا للفقراء شكرا لله تعالى على ذلك".

* ومن الاحتياطات التي درج عليها الأسلاف، إنشاء الجِنان داخل المدن ومحيطها، وهي المعروفة بالبحائر، وهي من المظاهر الجمالية التي تزخر بها الثقافة البيئية المغربية، وقد احتضنت المدن العتيقة نماذج بديعة لها كعرصات فاس ومكناس وحدائق الأوداية بالرباط وأكدال مراكش التاريخية، وإذا كانت هذه المنتزهات قد تميزت بصنوف من الأشجار والنباتات التي غرست وفق تخطيط فني بديع يدل على ما بلغته هذه الصناعة في العدوتين من ارتقاء، فإن زراعة الأزهار والورود، كانت من الظواهر المثيرة بدورها، وقد كانت عصارتها توظف في صناعة الحلويات وعصير الفواكه كما تتميز بقطراتها الندية التي تستخرج بطريقة خاصة تستعمل في نضح الضيوف بها.

* كما لعب شيوخ كثير من الزوايا الصوفية المغربية أدوارا بيئية رائدة خففت كثيرا من المتاعب الناجمة عن فترات المجاعة والأوبئة وهكذا انخرطت نخبة منهم في مجال إحياء الأرض، وحفر الآبار، وشق السواقي، ومنهم الشيخ عبد الله الغزواني (ت: 1035هـ) صاحب كتاب "النقطة" والشيخ أبو عمرو القسطلي، وغيرهما كثير في المغرب، بل إن منهم من حول العالم البيئي بكل مكوناته الطبيعية والجمالية إلى مادة مهيبة ومليحة لإبداع تصليات نبوية مؤثرة كالشيخ المعطى بن صالح مصنِّف: "ذخيرة المحتاج".

خامسا: منابر لحماية البيئة

مولاي أمير المؤمنين

لا شك أن المخاطر التي تحدق بالبيئة تجعل مسؤوليتها جسيمة ومشتركة، يلعب فيها المجتمع المدني دورا مؤثرا، ومن أهم المنابر المرشحة دوما للمساهمة في تعميق وتفعيل الوعي البيئي مايلي:

1- المنبر الروحي: وهو الذي يعنى في مختلف أنشطته المسؤولة بالتحسيس بالمسؤولية العقدية والأخلاقية اتجاه البيئة، وذلك بتوظيف مختلف الآليات الإعلامية والتثقيفية والميدانية.

2- المنبر التربوي: وهو الذي يعنى بمساهمة جميع المناهج والنشاطات المدرسية في التوعية البيئية، وذلك من خلال تمكين الفئات المتعلمة من المفاهيم والحقائق العلمية، وكذا تحقيق إشباع بأهمية القيم التربوية البيئية.

3- المنبر الجامعي: ويعنى بتعميق البحث العلمي في المجال البيئي عبر المراصد البيئية، وفق برامج ممنهجة مدعمة تعنى بالحاجيات المحلية والوطنية، وتنفتح على المناهج والاجتهادات الدولية.

4- المنبر التشريعي: ويعنى بالجانب الحقوقي البيئي وذلك بإغناء الاجتهادات القانونية والحقوقية المواكبة للطوارئ والمستجدات.

5- المنبر العمراني: وهو الذي يؤمَّل منه المحافظة على البيئة في جميع التصاميم والمشاريع من مستوى التخطيط للمدن الجديدة إلى التخطيط للجهات السكنية المشتركة والفردية.

وقبل هذا وذاك فإننا عندما نبرم مع الوطن ميثاق الحب والوفاء الذي لا يقبل نسخا أو مراجعة فإن من جملة بنود ذلك الميثاق الغليظ أن للوطن حقا مقدسا يطوق به مواطنيه جميعا، ذلكم هو حق رعاية البيئة الذي يشكل مع حقوق أخرى اللحمة القادرة على الجمع بين مختلف الأطياف والفئات الاجتماعية، وصهر همومها جميعا في بوثقة واحدة، هي بوثقة حب الوطن، وإن خلايانا وأعماقنا لتُرَجع في كل حين الحكمة المؤثرة: "حب الوطن من الإيمان" .

 والله يصونكم ويرعاكم،

والسلام على مقامكم السامي ورحمة الله وبركاته.

 ومسك الختام من مولانا الإمام

المصدر: http://www.habous.gov.ma/